ليس كلاما إنشائيا، إنما هي الحقيقة والواقع الظاهرين لكل ذي عينين؛ ما النور؟ انه العلم، المعرفة، الظهور، باختصار شديد انه الوجود؛ إذا كان مسلما بأنه لا يمكنك رؤية مخلوق إلا إذا كان تحت النور، أو هو مصدر النور ذاته، ودون ذلك يستحيل رؤيته، وإذا جاز لنا القول بأن عين عالم اليوم هي الكاميرا، وسمعه الميكروفون ولسانه الصحف، فالسؤال الواقعي والموضوعي: أيهما يراه ويسمع ويتكلم عنه العالم اليوم غزة هاشم أم العالم العربي؟ شاهدوا القنوات الفضائية العالمية المستقلة، وافتحوا الصحف الدولية المرموقة، هل تجدون اسما لنظام عربي يتصدر صفحاتها أو يفتتح عناوين نشراتها الإخبارية، هيهات كلها مجتمعة كأنما وقعت بخيار قادتها في ثقب أسود حالك الظلام، أو هوت بها عمالتها في مكان سحيق، لا يكاد يراها أحد، لا يرصد لها نشاطا ولا يستشعر لها حياة، والعكس تماما إذا تعلق الأمر بغزة وشعبها الصامد الأبي، يحترق ولكنه يضيء العالم، كل العالم تتجه أعينه إليها متابعة لأدق تفاصيل حياتها اليومية ويرهف كل السمع لها، وكل ألسنته تتحدث عنها.
هذه مقدمة متواضعة أزعم أنها واقعية، أدفع بها في وجه أولئكم القوم، الذين يطالبوننا بالموضوعية والاعتدال وغيرها من الاصطلاحات، التي مجها المواطن سماعا وقراءة، يرددونها دون كلل ولا ملل كلما ارتفعت أصواتنا تجاوبا مع تأوهات شعب فلسطين، نطالب بحقنا الشرعي في رفع الغبن عنه ودعمه، وها هي تتكرر كأي اسطوانة مشروخة، مع أزمة الكهرباء التي يتخبط فيها القطاع منذ أيام، وكان لابد عليهم أن يثيروا زوبعة جانبية كالعادة مع حماس، اتكأت هذه المرة على تصريحات أدلى بها محمود الزهار لصحيفة، حملت هذه الزوبعة في دورانها حول ذاتها، تلكم الكلمات التي من كثرة تكرراها واصطدامها بجدران اللامبالاة، باتت أشبه بعلب التغليف مطبقة، متهرئة الجوانب تتطاير في الهواء لا تألوا على معنى، وكثير من فضلات الكلام المرمي على جوانب الأرصفة عافها العامة منا، كبر لا يقوم على منطق وتعاظم لا يسنده واقع.
ما يغفل عنه هؤلاء الذين أبوا إلا العيش في عالم افتراضي، أننا - نحن العامة - لم نعتمدهم يوما مرجعية لتقييم وعينا، من فوضهم هذا التقدير؟ لو كانوا واقعيين بما تحمله الكلمة من معنى لقاموا باستفتاء شعبي حول سياساتهم تجاه غزة خصوصا وفلسطين وعموم قضايا الأمة، لن يجرأوا على ذلك، والحجة لديهم أن الشعوب العربية عاطفية وغوغائية، ولست أجد لؤما أحط دركا من هذا، يصدر عن رجال أو أشباه رجال، ولدوا من أصلاب هذه الشعوب، كبروا ودرسوا وتوظفوا على حساب عرقها ودمائها، ثم ردوا الخير والفضل باتهامها بالجهل والغوغائية، بئس السلوك وبئس الخلق؛ ولماذا هذا الوصف في حقنا كأنما لا نملك عقولا نميز بها؟ هل لقولنا يجب أن نقف بقوة إلى جانب الشعب الفلسطيني المظلوم؟ وهل يصح هذا الوصف كذلك على كبار المفكرين والإعلاميين والعلماء العرب في العالم، أمثال فهمي هويدي ومحمد حسنين هيكل ومحمد المسفر وعبد الوهاب المسيري ويوسف القرضاوي وحمدي قنديل ومحمد سعيد رمضان البوطي وغيرهم كثير! وإن جاز لذلك الناطق باسم الخارجية أو حتى وزيرها أن يحشر هؤلاء معنا، فهل يحق لهم وصف رؤساء دول عربية وإسلامية بذات الصفة، غوغائيين وعاطفيين، مثل إميل لحود رئيس لبنان السابق، والشاذلي بن جديد رئيس الجزائر الأسبق، وعلي عبد الله صالح والقذافي والبشير وبشار الأسد ورجب طيب أردوغان وأمير قطر، صحيح أنهم لم يفعلوا شيئا يذكر لفلسطين وشعبها، لكنهم لم يجرأوا بعد على وصف الأمة بالغوغائية وعدم الوعي.
وإن تجاوزنا كل هذا، بماذا يمكن أن يصف هؤلاء المتفيقهين على الأمة، بوش الابن حين ادعى بأنه يتلقى الرسائل من ربه وسيقود حملة صليبية؟ أغوغائي حينذاك رئيس الولايات المتحدة أم عاطفي! بادروا سفها للتعليل بأنها مجرد زلة لسان، وحين قال خلفه الحالي لن أقبل أن تقوم بناتي فزعات من النوم خوفا من صواريخ الإرهابيين، أواقعي الرجل أم عاطفي! كيف إذن الحال بهذه الأمة تجاه الجريمة التي تقع على إخوتنا في فلسطين؟ وماذا يكون ساركوزي حين يعبر جديا وعمليا عن حزنه لحال ' شليط ' أعاطفي غوغائي أم رجل مسؤول تجاه من يحمل جنسية بلده؟ ماذا لو كانوا عشرة آلاف بين رجال ونساء وأطفال؟ ثم حين يقال لن نقبل بإمارة دينية ولكن نعترف بدولة يهودية ونتعاطى معها أينا متخبط في منطقه؟ وأينا يعبر عن خلل في الدماغ! أليس ذلكم الذي رفض التعامل المباشر مع أمين عام حزب الله، بحجة أنه يمثل دولة لا تلتفت لهؤلاء الصغار، ثم يستقبل سمير جعجع على أعلى مستوى؟ وأخيرا وليس آخرا حين تؤكد الأمة وعيها بأن المحرك الرئيسي لمعاداتها عقيدي خالص، يترافع هؤلاء بقوة دفاعا عن الغرب ورموزه، فبماذا ليت شعري يصفون مقال خوسيه ماريا أثنار رئيس الحكومة الاسبانية السابق، الصادر بجريدة 'التايمز' في 17/06 وقد خلص فيه إلى القول إن 'إسرائيل هي جزء أساسي من الغرب وما هو عليه بفضل جذوره اليهودية/المسيحية، ففي حال تم نزع العنصر اليهودي من تلك الجذور وفقدان إسرائيل، فسنضيع نحن أيضاً وسيكون مصيرنا متشابكاً وبشكل لا ينفصم سواء أحببنا ذلك أم لا'. أهذا الرجل غوغائي أم من دهماء العامة؟ أم تحتمل عباراته معاني سريالية يصعب على أمثالي فك رموزها؛ وقبله وفي رد على سؤال لغسان بن جدو، يؤكد وزير الخارجية الفرنسي الأسبق رولان دوما بأن الحرب في منطقة الشرق الأوسط ولبنان تحديدا، هي ضد الإسلام والعالم الإسلامي (هكذا حرفيا 'حوار مفتوح'29/05)، هل هذا من سواد الناس وعاطفي ؟أم هذه الجملة طلسم لا يفقهه إلا وزير خارجية عربي أو ناطق باسمها!؟
ختاما، لا شك لدي أن زعماء الغرب يعلمون جيدا، أن هذه الوجوه التي تعرت عظام مروءتها النخرة، بعد أن تناثر عنها لحم حيائها، لا تمثل هذه الأمة في شيء، وإنما يتعاملون جميعا في حدود عالم افتراضي، سيفضحه يوما واقع تصنعه أيادينا، وكما جرت العادة لن ألوم هؤلاء ولا أولئكم، وإنما سؤالي عن النخب الدينية والفكرية التي لازالت تعيش في ظلام الأمة العربية، إن لم تعد إحدى طبقاته، وهي ترى نور غزة يضيء بدمها ودموعها العالم بأسره...
2010-07-03, 21:36
