في خريف سنة 1956 بدأت أخبار يتناقلها بعض الناس بأن هناك تنظيما مضادا لحزب الشعب يسمى جبهة التحرير، وأن اشتباكات تجري بينهما في الدواوير المجاورة شمالا انطلاقا من بلاد القبائل، وما كادت هذه الأخبار لتعم حتى وصل تنظيم الجبهة إلى بني يلمان وبدأت الاشتباكات تحدث بين التنظيمين ويسقط الضحايا من الطرفين، لكن الناس كانوا ينظروا إلى ما يحدث أنه مخالف لما كانوا يعتقدون.
فهم يرون أن النصارى هم العدو، أما هؤلاء المتقاتلون فهم من أبناء جلدة واحدة، بل أكثر من ذلك أنهم كلهم أو أكثرهم من القبائل، لكن هذه الاتهامات الكلامية بينهما، فكل طرف يدعي على الآخر أنه عميل للاستعمار ويحذر الشعب من مغبة التعاون معه، فلم يصدق الناس في قرارة أنفسهم هذا الطرف أو ذاك لأنهم يرون المتعاون يأتي على ظهر دبابة فرنسية.
أما وأن كليهما يحمل شعار جيش التحرير فذاك أمر يصعب التصديق به، لم يصمد بن لويس طويلا في بني يلمان فانسحب جنوبا كما انسحب من الدواوير الشمالية من قبل، ومن هنا خلا الجو لتنظيم الجبهة أو من يحملون شعارها، وكونوا تنظيمهم على أنقاض تنظيم المصاليين، ولم تعد الرغبة عند الناس رغبة جهادية تأتي من الذات عفوية، بل أصبح الخوف سيد الموقف، فالطعام والمأوى والتبرع والاشتراك، لم يعد طلبا بل كان آمرا لا يقبل المناقشة، وكان هذا ما لم يلحظوه عند رجال بن لونيس الذين كانوا يمتازون بالتواضع وحسن الخلق واستعمالهم للهجة القبائلية فيما بينهم، فإذا رأوا من بينهم من لا يفهم لهجتهم تكلموا بلغة الناس التي يفهمونها، وعلى العكس من ذلك جنود الولاية الثالثة فقد كانوا يشترطون لطعامهم لحم الغنم ويرفضون الماعز، بل يحذرون منه، كما أن أكثر عباراتهم المتداولة كلمة خبيث يطلقونها على كل شخص بدا على وجهه التذمر، كما أن قتل الكلاب بحجة أن الكلاب بنباحها تكشف وجودهم لقوات الاستعمار وهم يعملون أن الاستعمار لا وجود له في الدوار ولا في الدواوير المجاورة، وأنهم يتحركون في الليل والنهار بحرية، ولكن تأكد للناس أو بعضهم سوء النية عند هؤلاء الجنود عندما يأتي بيته جندي ويطلب منه أن يذهب لحراسته حتى ينام قليلا لأنه متعب وسهران، فما يكون من المواطن، إلا أن يخرج زوجته وبناته ليقوموا بالحراسة معه ويترك له المنزل، فما يكون من ذلك الجندي إلا المغادرة والعودة خائبا، ومن ضمن عيوب هؤلاء الجنود وانعدام تكوينهم السياسي قول بعضهم أن هذه الأرض هي بلادنا وأن وطنكم يوجد ما وراء جبال بوسعادة في الصحراء.
هذه الكتائب التي كانت بقيادة (الروجي) زحفت جنوبا لتطهير الأرض المفتوحة الشبه صحراوية من جنود بن لونيس الذي هيأ لها الكمائن في أرض يعرفها جنوده وأباد أكثرهم.
ثم حلت كتيبة ببني يلمان لنفس التنظيم (الجبهة) بقيادة الملازم رابح الثايري فأعاد تركيب تنظيم المسبلين فكانوا 15 مسبلا، وكان الرجل وجنوده ليست فيهم مساوئ من سبقوهم، وبقوا بين الناس أياما مكرمين، وما استنتجه الناس من خلال هذه الممارسات لنفس التنظيم، أن في القيادة خللا وليس في الجنود، فالجندي خاضع لأوامر قائده وهو مثله المقتدى.
استمر الوضع هادئا لا تعكره إلا بعض المناوشات على أطراف الدوار، فقد كان جنود بن لونيس يأتون من الجنوب ويشتبكون مع جنود الولاية الثالثة وينسحبون جنوبا لعل لاستدراجهم إلى كمائن وضعت لهم، لكن نظام الجبهة كان هو السائد، حتى حدث يوما ما لم يكن في الحسبان، لقد شاهد سكان قرية القصبة حوالي ثلاثين جنديا على بعد حوالي كيلومتر، لم يتفاجأ الناس وظنوهم جنودا لجبهة التحرير، وقد غادروا القصبة في الليلة الفائتة، لكن الدهشة أصابت من رأوا هؤلاء الجنود أنهم فرنسيون ومعهم جنود جزائريون، دخلوا قرية القصبة واستباحوا كل شيء بما فيها الحرمات وتدمير المواد الغذائية وتحطيم ما يمكن تخريبه قبل أن يجمعوا كل الرجال وينادي الضابط الفرنسي على المسبلين بأسمائهم، فوجدوا ثلاثة عشر من 15 فوضعوا القيود في أيديهم وقادوهم خارج القصبة، حيث تركوا آلياتهم على بعد ثلاثة كيلومترات وعند باب القصبة سأل الضابط الفرنسي المعتقلين، من رئيس المجموعة؟ فقال له محمد بن جديدو: أنا رئيسهم. فقال له الضابط أنت الفلاڤ الكبير.
فقال له نعم نحن كلنا فلاڤة والشعب كله فلاڤة، فما كان من الضابط الفرنسي إلا أن نزل عليه بهراوة في يده فكسر أطرافه، ثم أخرج مسدسه ليفرغه في صدره ورأسه، واقتيد 12 إلى الآليات التي تركها الفرنسيون في السهل بعيدا ولم يروها، ولو رأوها ما خطر في بالهم أن قوة فرنسية تأتي هكذا راجلة وهي التي لم تدخل القصبة حتى عند هزيمة المقراني. وبقي الثوار حين ذاك متشبثين بأسوارها الطبيعية ولم يستسلم إليها (المنافقون) كما أطلقت عليهم وقتها على كل متمرد ضدها.
كل ذلك جرى صباحا قبل منتصف النهار، وفي المساء جاء جنود الولاية الثالثة إلى القصبة فلم يلتفت إليهم أحد، وواجهتهم فتاة جرحت كرامتها على يد الفرنسيين قبل ساعات قائلة لهم أين أنتم من المصاليين الرجال الذين واجهوا فرنسا وهي بمدافعها وطائراتها وأنتم لا تأتون إلا لطلب الأكل. فقال لها رئيس الفصيل: كان بإمكاننا إبادة هذه المجموعة، لكن خفنا عليكم من الانتقام، فقالت له: وهل يكون أكثر مما وقع لنا أيها الخوافون، اذهبوا عنا فإننا نكرهكم.
وقد اختفوا بالفعل ولم يعد لهم وجود في القصبة، وشعر الناس بشيء من الراحة والهدوء الذي يسبق العاصفة، لكن حدث ليلة من ليالي أفريل بعد اعتقال المسبلين الإثنى عشر وقتل رئيسهم، أن طرق جنود الباب على المسبلين الاثنين اللذين لم يعتقلا وكانا يسكنان خارج القصبة، فأخذا ليلا من فراشهما إلى مشتى لعشيشات في دوار ملوزة وأعطوهما معاول لحفر قبريهما، فذبحوا الأول والآخر ينظر ولم يكمل بعد حفر قبره لكنه جازف وأراد أن يموت بالرصاص، وكان قوي البنية فانتهز فرصة الظلام والثلج المتساقط وشد جنديين فسقطا في الحفرة وأطلق رجليه هاربا والرصاص ينهال من خلفه واختفى في الظلام حافيا وفي قميص النوم الذي وجدوه عليه وبات يجري عبر جبال وصخور يغطيها الثلج حتى وصل إلى مركز أولاد ثاير ببلدية بن داود، وبعد أن استرد عافيته استقدم أسرته ولم يحمل سلاحا لا عسكريا ولا مدنيا، حتى وقعت واقعة بني يلمان الكبرى.
بعد أيام أو أسابيع من هذه الحادثة التي كان ينتظرها المغدور بهم أن تأتيهم من قبل القوات الفرنسية لتلحقهما بزملائهم القابعين في سجن سطيف، ولكن لا يمكن اعتقالهم ليلا في عز الشتاء.
في هذا الشهر حل ببني يلمان أربعة ضباط لجيش جبهة التحرير، طلبوا من أعيان بني يلمان أن يجتمعوا بهم، وكان لهم ذلك، بحيث اجتمعوا في المسجد بمشتى حميان، وكان لهؤلاء الضباط ميزة خاصة لم تتوفر فيمن سبقوهم، فأخذ الكلمة رئيسهم سي البشير وهو مثقف وسياسي، فكان من ضمن ما قاله ''أنهم يقولون عنكم يا بني يلمان أنكم تناصبون العداء لجبهة التحرير، وإن قلتم بأننا لا نريد الجبهة فإننا سنترككم وما تريدون''.
فسكت الجميع ولم يكونوا مستعدين لمثل هذا السؤال، فتكلم زميله نصر الدين مشجعا إياهم على الإجابة وأنه يعاهدهم أن لا يقع لهم شيء مهما كانت إجابتهم.
رفع الحاج عيسى يده: نحن لا نرفض أحدا ولا نملك حق الرفض نحن شعب لا سلاح لنا ولا قوة، فمن طلب الاشتراك أعطيناه ومن طب الطعام والتبرع أعطيناه، أحببنا أم أبينا، فلا يوجد من بينهم نصارى، فشكره سي البشير على صراحته.
فقام بلعباس وأخرج رزمة فإذا بها سبعمائة ألف فرنك تبرعا، وقام غيره فأعطوه بما أمكنهم، فوصل المبلغ إلى ثلاثة ملايين ثم ودعوا الناس وخرجوا تحت جنح الظلام.
لم يدر أحد أين توجهوا، فالوقت ليلا والكتمان كان من أساسيات الثورة، لقد شعر الناس يومها براحة واطمئنان إلى هؤلاء الرجال الذين رأوا فيهم النموذج المعبر عن المجاهدين الحقيقيين.
وبعد يومين رأى سكان مشاتي بني يلمان من الجهة الشرقية طائرتين تغيران على مشتى لعشيشات في دوار ملوزة، والدخان يتصاعد من أحد الأكواخ، وتساءل الناس عن تلك الغارة وأهدافها، فتبين أن المستهدفين كانوا الضباط الأربعة، شعر الناس بحزن شديد على هؤلاء الرجال. وبقي السؤال قائما إلى اليوم من وشى بهم وبأي وسيلة تم الاتصال بالمركز الفرنسي الذي هو بعيد، فلا يوجد حينها هاتف ولا طريق معبد ولا سيارة أصلا؟ ومن استفاد بالمبلغ المالي الذي كان في حوزتهم ولم تحضر قوات برية فرنسية لتطهير الموقع.. هذه الأسئلة كان يمكن الإجابة عنها من قبل من كانوا متواجدين مع الضباط، ولماذا لم يستهدف الجنود الذين كانت تعج بهم المنطقة طيلة مدة ناهزت السنة.
عمّ الهدوء خلال ربيع 1957 فلا كتائب تغدو وتروح ولم يعد صوت البارود يتردد صداه في الجبال بين الإخوة الأعداء، فالربيع زاهر وسنابل القمح والشعير بدأت تبدي ثمارها وقد هيئت لها المناجل في انتظار نضوجها ولا خوف عليها إلا من رعود البرد المدمرة أو من الجراد الصحراوي الزاحف والطائر، فحياة الفلاحين وبهائمهم تتقرر في هذا الشهر، حيث ينضج الشعير جنوب الجبال قبل شمالها في منتصف ماي.
الخيانة المقنعة بالجهاد
وفي هذا اليوم 28 ماي 1957 وفي الصباح الباكر خرج الفلاحون من مختلف المشاتي المتباعدة والمتقاربة إلى حقولهم يحملون مناجلهم وماءهم متوجهين إلى الحقول لحصاد الشعير، وغير بعيد من بيوتهم وجدوا جنودا يطلبون منهم التوجه إلى مشتى القصبة، حيث يعقد اجتماع ويلقى القائد خطابا، عاد من سمع الخبر أو الأمر إلى بيته بوضع منجله ولبس أفضل ما لديه من لباس ووضع في جيبه ما أمكن مما يمتلك من فرنكات للتبرع كما جرت العادة في نهاية كل اجتماع، غير أن الاجتماعات كانت تعقد مساءً في الليل. أما اليوم فإن الدعوة جاءت في اجتماع جاء في الصباح الباكر.. هذه تساؤلات حضرت في الأذهان، لكن أمر الجيش لا يتطلب المناقشة أو النقد، توجه الناس إلى القصبة وراء الجبل عبر مسالك صعبة، وسمع بالأمر من بكروا إلى الحقول فعادوا والتحقوا بالمجموعات التي يرافقها جنود أو تسير بمفردها، وقد كانت مجموعة أخرى من هذا الجيش فقد بكرت إلى مشتى القصبة فأخرجوا منها النساء والأطفال واحتفظوا بالرجال، وعندما وصلت الجموع في كل المشاتي وجدوا بيوت القصبة خالية من سكانها إلا الرجال، فأدخل الجنود الشعب إلى مسجد القصبة الصغير ووزعوا الباقي على مختلف بيوتها التي تشبه الجحور، وكانت الساعة حينما دخل الجميع بين العاشرة والحادية عشرة صباحا، وإذا بأزيز الطائرات يصم الآذان وتكاد تتساقط جدران البيوت، وانتظر الناس قنابلها كلّما اقترب أزيزها، لكن ما لاحظه بعض المدعوين من منافذ تلك البيوت أو من شقاق الأبواب المغلقة عليهم، أن هؤلاء الجنود الذين كانوا برفقتهم قبل قليل لم يختفوا من الطائرات ولم يخفوا سلاحهم، فبدأت بعض الظنون تساورهم، ولكن لم يجدوا جوابا لشكوكهم، فهؤلاء الذين استدعوهم وجاءوا برفقتهم ليسوا نصارى، إنهم قالوا بأنهم جيش التحرير، لكن الطائرات لم تؤذهم، لعلها خافت أن تصيب الشعب فاكتفت بالتحليق عن قرب، لكن هناك زخات من الرصاص تطلقها في أطراف القصبة من الشرق.. فماذا تضرب؟
لم يدر من أضحوا محتجزين وأغلقت عليهم الأبواب ومنع عنهم الماء وقضاء الحاجة، وتحولت معاملة الجنود لهم من لين إلى قسوة ومنع السؤال والكلام، لم يعلموا بما يحصل في مشاتيهم التي غادروها باكرا، أن هناك مجموعات صغيرة لنفس الجيش تجتاح المشاتي التي غادرها رجالها تعيث فسادا، حيث أحرقوا السيارة الوحيدة لأحمد دحدوح، ومطحنة بايزيد، ومنزل عيسى بن دحدوح ومنزل الصديق، وقتلوا الشيخ التيلو الكفيف وقتلوا معلم القرآن عبد القادر، وقتلوا الشيخ الضيف المريض وهو يحتضر وقتلوا الشيخ لخضر لأنه لا يستطع حراكا وهو شبه كفيف، كل ذلك يجري تحت نظر الطائرات وهم يركبون خيولا وبغالا يحملون عليها من أثاث وزرابي من صوف، كل هؤلاء قتلوهم بحجة أنهم تخلفوا عن الدعوة للاجتماع. أما الطائرات فكانت تطلق رصاصها على البغال والبقر التي تركها أصحابها ترعى في الحقول.
كما كانت امرأة في مشتى سولي تحمل صبيا لم يتجاوز السنة أطلقت عليها وابلا من الرصاص أسقطها وسقط الصبي من يدها وتدحرج عبر المنحدر، ومن يومها شب الصبي شبه قزم ولا زال المسعود وهذا اسمه يتخيل وضعه.
اختفى من كانوا في طريقهم إلى الاجتماع بين صخور الجبال وفي الشعاب وهم يرون الطائرات تقتل البهائم، ويرون من الجانب الآخر السيارة والمطحنة والبيوت وإطلاق الرصاص من حين لآخر، ولم يجدوا تفسيرا لذلك، فلم تأت القوات الفرنسية لتقوم بذلك، فمن يقوم بذلك، فإن كانوا جنود جيش التحرير، فلماذا لا تطلق عليهم النار؟
أهُمْ رجال حركى، كما كان يسمع الناس أن هناك جزائريين جندتهم فرنسا لأغراضها وتحقيق أهدافها.
تلك الأسئلة فرضت نفسها ولم يجد لها الناس جوابا.
هناك غبار كثير يظهر قادما من جهة المسيلة بعد ساعة، إنها قافلة عسكرية بعد مدة ظهرت أنها قادمة إلى بني يلمان، انقطع أزيز الطائرات وانسحبت شرقا، وفي حوالي الساعة 14 وصلت واستقبلتها النساء والأطفال الذين كانوا هائمين على وجوههم عبر الجبال وكذلك الرجال الذين كانوا في طريقهم إلى الاجتماع، كل هؤلاء لجأوا إلى القوات الفرنسية والذين كانوا إذا شاهدوا غبارها من بعيد غادروا ديارهم واختبأوا في الجبال، هاهم الآن يستقبلونها بالبكاء طالبين نجدة ذويهم المحتجزين هناك في بيوت القصبة بعدما تبين لهم أنهم سيقتلون، فالذين قتلوا الشيوخ والمرضى والمكفوفين لا يتورعون عن قتل من استدرجوهم إلى اجتماع كما أوهموهم، لكن القوات الفرنسية لم تهتم بالأمر، وانهمك جندوها ينصبون الخيام ويشربون أنواع الخمور المحفوظة في مبردات وعوضوا الأطفال المنهكين عطشا وجوعا بأرجل حافية دامية وأجساد شبه عارية، نعم عوضوهم عن آبائهم بقطع الحلوى والشيكولاطة التي لم يتذوقوها من قبل. عاد أكثر الرجال إلى قمم الجبال المشرفة على القصبة ليطلعوا على ما يحدث عن كثب حتى المساء وبقية الليل.
فتساءل بعضهم هل يقتلوننا؟ وأجاب غيرهم: ولِمَ يقتلوننا.. وهل فعلنا ما يستوجب قتلنا؟ قال غيرهم لعلهم يبحثون من بيننا على متعاونين مع بن لونيس؟ وقال غيرهم إن المتعاون أو من كان متعاونا مع بن لونيس لا يحضر بإرادته ويرضى أن يموت بطلقة رصاصة ولا يسلم رقبته لعدو يذبحه، كل هذه الأسئلة والتساؤلات كانت تجري خلف جدران وأبواب مغلقة وسط جو متعفن وحلوق جافة من شدة العطش، ولا يقطع هذا الصمت إلا قهقهات وصرخات وشتائم يكيلها عيسى بن يحيى الذي أنهكه القيد فمرة يستغرق في الضحك ومرة يسب الجنود سبا لاذعا، والناس يعتذرون عنه أنه مجنون منذ شبابه ولا لوم عن أفعاله وأقواله، لكن الناس طالما سمعوا منه كلاما ينبئهم فيه عن حوادث تقع، وبالأمس فقط طلب من عجوز أن تصنع له شخشوخة وتكثر لها الدهن، فلما وضعتها أمامه وضع يديه فيها ورمى بفتاتها إلى السماء، قال مع كل رمية: ''هذا نعيكم يا بني يلمان''.. وكان دائما يشير إلى رقبته وهو مستغرق في الضحك أن هذه الرقبة سيذبحها الكفار الملعونين.
بدأت الشمس تنزل نحو المغيب عندما دخل الجنود كل بيت فيه محتجزون وطلبوا منهم أن يسلموهم كل ما في حوزتهم من بطاقات هوية ونقود وساعات وكل شيء في جيوبهم، وبعض الملابس الجديدة.
بدأ الجنود يخرجون المحتجزين في كل دفعة خمسة، وظن الناس أن الفرج قد جاء فصاروا يتزاحمون على الأبواب، وأكثرهم لم يعد قادرا على الوقوف، فيخرجون الخمسة ويعودون لأخذ خمسة آخرين، وهم يذهبون بهم إلى بيوت أفرغت لهذا الغرض ثم يذبحونهم بالسكين وهم غير قادرين على المقاومة، حتى قاومهم واحد وفر هاربا فأطلقوا عليه الرصاص، فعلم المحتجزون أن من خرجوا ذبحوهم، وفي هذا الوضع ارتفع الصراخ والتكبير من المسجد والبيوت، وهنا صبت النار على الجميع وفي ظرف دقائق كانت الجثث ساقطة على بعضها والدماء تنزف من كل جرح حتى صارت بركا، ولم يبق إلا من يئن متألما من جرح فنزلوا عليه بالفأس أو ذبحا بالسكين، وعندما خمدت كل الأصوات بدأوا في اختبار بعض من يشكون في موته فيضعون على رجله نارا فإذا ما تحرك ذبحوه أو هشموه بفأس أو شاقور، بل هناك من تركوا النار تلتهمه حتى تفحم جزء منه، ومنهم من استأصلوا أعضاءه المستورة.
ولم يبق غير جنود رفضوا القتل قتلوهم في المكان، قيل 9 وقيل 11 جنديا، وقد دفنوا مع المواطنين، وانسحب الجنود تاركين خلفهم أكثر من 300 جثة تسبح في برك الدم وقطع من المخ المتطاير من جرّاء ضرب الفؤوس، سمع من كانوا في الجبل المشرف على القصبة إطلاق الرصاص الكثيف فعلموا وتأكد لديهم أن الإبادة كانت جماعية رهيبة.
وما كادت تباشير الصباح تظهر حتى هرع الجميع نحو القصبة من مختلف الجهات وأغلبهم باتوا في الجبال عن قرب، وقد سمعوا صوت الرصاص، فكانت النساء الحافيات متورمات أرجلهن من الأشواك والحجارة يتبعهم أطفالهم الكبار والصبية وهم في وضعية أسوأ من أمهاتهم، والتقى الجميع وراء صخور القصبة، فلم يجدوا غير جثث متناثرة هنا وهناك ومتراكمة في المسجد والبيوت.
ووقع الجميع متجمدا فلا صراخ ولا نداب، وقد جفت العيون من الدمع طيلة ليلة في العراء، وقد رؤوا الجثث منتفخة ومشوهة، فالتفتت القلّة من الرجال الذين فلتوا من الفخ عن طريق الصدفة، التفوا يبحثون عن معاول يحفرون بها المقابر الجماعية، ومنهم من عادوا إلى المشاتي القريبة يبحثون عن المعاول والبغال لحمل الجثث، وفتحوا القبور القديمة خارج سور القصبة، فألقوا فيها الجثث، وغيرهم من النساء والأطفال يحفرون القبور الجماعية، حيث يكون التراب هشا، وفي هذا الوضع وقد ارتفعت الشمس حارة ملتهبة زادت الجو حرا، فالريح الجنوبية حولت الأفق أصفر مما تحمله من غبار صحراوي، في هذا الوقت اهتزت جنبات الجهة بأزيز الطائرات المروحية الضخمة التي بدأت تنزل تباعا وينزل منها عشرات الأشخاص يحملون على صدورهم آلات تصوير يرافقهم عدد من العسكريين من الضباط الفرنسيين الكبار وضعوا المناديل على أنوفهم وراحوا يلتقطون الصور للأموات ومن يدفنوهم من نساء وأطفال وبعض الرجال، ووقف ضابط فرنسي كبير يصرح على مايبدو فليس هناك من الشعب من يفهم لغته، وليس هناك من هو منتبه إليه، كان كل الاهتمام منصبا على معرفة الوجوه وسحب الجثث إلى المقابر أو الحفر الفوضوية المهم تغطيتها بشيء من التراب لسترها.¯
يتبع
عمران جعجاع